شارك الآن

كما اعتاد كل صباح، يفتح شرفتهُ المطلَّة على ربوع أرضه، منتظراً ذلك القُرص المتوهِّج ليطلع من بعيد، مبعثراً أشعته بين سنابل القمح وأشجار الزيتون، ماسحاً كل الدمعات، عن تلك الورقات المنتحبات؛ بحجة الأمل.

لم يمل من الانتظار، كان دوماً على الموعد، تسعة وخمسين عاماً لم تكن كفيلة بتثبيطه، لم تكن كافية للنسيان، هو لم يتغيب يوماً عن سماع أخبار السادسة.

كان يجلس على كرسيه المهترئ، بكوفيته التي تلتف على كتفيه راسمتاً جسراً لا ينتهي من الصمود، ممسكاً بندقيته العتيقة، يمسحها بطرف قميص، وكأنه يراها للمرة الأولى، لطالما فعل ذلك، ولطالما أحبت بندقيته تلك المداعبة.

يتوقف فجأة! دقت أجراس السادسة؟ حان الموعد "نشرة الأخبار".

فعلى الرغم من كثرة المذيعين الذين سمع صوتهم على مدى العقود الماضية .. إلا أنه ومع كل مذيع جديد، كان ينظر إلى بندقيته بابتسامة كادت تجاعيد وجهه أن تخفيها، ليقول كما جرت العادة، لعلنا نرى على وجهه الخير.

يسرد المذيع أسماء الموتى، والجرحى والشهداء. تتلألأ عيني ذاك المسن، لم يخجل من النظر إلى بندقيته ليقول بصوتٍ ظهر عليه الأسى والحزن؛ لا بد من ثمن.

يعاود النظر إلى القرص المتوهج خارج الغرفة، مستمراً بمداعبة بندقيته، يشدها كلما سمع بعملية جديدة ضد المحتل، ويتركها كلما سمع بمؤتمر جديد.

تلك هي قهوة الصباح، وتلك هي الموسيقى التي كان يفضل سماعها.

في اليوم التالي، أفاق من سريره مفزوعاً، فقد ظن أن موعده مع القرص الذهبي قد فات، نظر إلى ساعته التي لم يبقَ منها سوى مؤشر الساعات، لأن الدقائق والثواني لم تعد تعني شيئاً في حياة ذاك العجوز.

كانت الساعة السادسة إلا ربع، لكن أين القرص المتوهج؟ ما به قد تأخر عن موعده!

لم ييأس ذاك العجوز، فتح شرفته بانتظار الشمس، بانتظار الأمل! لكن لا فائدة! انتظر وانتظر!. لتزداد الأسئلة ازدحاماً في خاطره، من سيمسح دمعات تلك الأوراق؟ ومن؟ ومن؟

لم يستطع ذاك العجوز، إلا أن يقول "لا بد لذاك القرص من راحة"، ولم ييأس وعلى مدار سنتين، من تكرار تلك العبارة، كلما دقت الساعة السادسة.

ساءت حالة العجوز، وبدأ اليأس يتسلل إليه، كان ينظر بحزن إلى بندقيته المعلقة، وقد حاصرتها خيوط بيت العنكبوت، لم يستطع إلا الصمت، على غير عادته!

فلطالما روى لتلك البندقية أخبار الثوَّار في فلسطين، لطالما أخبرها عن الكرامة، وعن حصار بيروت، وعن تونس، والجزائر.

تأخر الغائب .. ازداد الصمت .. وازدادت رائحة الموت، عندها كان لا بد للبندقية أن تتكلم! كان لا بد لمن كانت الأم، والأب، والأخ، والسمير، أن تكسر القيد وتسحق السجان لتقول: صابر .. قم يا صابر.

رد صابر منتحب الوجه: كيف ولمن سأقوم! لشعبي المتفكك! أم لثورتي؟ أم لأرضي التي باتت تلة يتسلق عليها الخائنون.

قالت البندقية : ما بك يا صابر؟ ألا تذكر! لطالما رددنا فلسطين داري، فلسطين ناري، ما بك ! قم يا صابر.

رد صابر دامع العينين: يا ليتني مت قبل أن أسمع هذا، ألم تعلمي بأن نشرة الأخبار، أصبحت تنقل يومياً وبلا خجل أخبار اقتتال الأخوة، في غزة لا اتفاق، وفي الضفة لا وفاق، غيمة سوداء لا تزول، لمن سأقوم؟ وعلى ماذا سأقوم! على رائحة الدم الفلسطيني! أم على أنين الأرض!

رددها صارخاً: قولي لي.

دعيني، دعيني أنام، أتركيني فلن أحزن لو أبيد شعبي فحبوب سنبلة تموت، ستملأ الأرض سنابل، لن أيأس، لو سُلبت كامل الأرض، لكن ما يمزقني هو حرمة الدم الفلسطيني. قالها وكادت أن لا تكتمل.

صرخت البندقية: لا تمت يا صابر، أنت الخيمة، أنت الشتات، أنت من سيعود.

رد بغضب: اصمتي، أتظنني بتلك الوقاحة. لو متُّ! ماذا سأقول لدلال، وبما سأخبر الختيار، والياسين، وأبو جهاد، لا تخافي. فمع أن الموت رحمة بالنسبة لي، إلا أنني لن أموت قبل أن أهدم الخيمة، وأعود. لن أموت قبل أن أعود.

تعقيب

هذه الخاطرة تتعلق بـالاقتتال الفلسطيني الفلسطيني، ففي حزيران في العام التاسع والخمسين للنكبة، حررت غزة بمفهوم حماس! وانقلبت حماس بمفهوم السلطة! وعم َّالظلام! بمفهوم صابر الذي يمثل الشتات الفلسطيني، بحيث أن التفكك والفتنة قائمة .. ونحن قد بدأنا في العام الواحد والستين للنكبة.

فثوروا، فلن نخسر سوى القيد، والخيمة.

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
CAPTCHA