شارك الآن

لم يكن الشعور بأن حالة السكون والاستقرار في وسط البحر مؤرقاً لسفينتنا في أي حال من الأحوال، حيث أنها لطالما قاومت الريح ولطالما نكست أشرعتها أمام أي منها ، لأن كل الشواطئ التي تتجه نحوها تلك الريح لا تتناسب مع ربان سفينتنا الأغر.

يبقى الحال وسفينتنا في وسط البحر تعاركُ الحياة التي اعتادت عليها، شمس تشرقُ حاملةً معها الأمل، وليلٌ يتوسطهُ قمرٌ يعدُ بغدٍ أفضل.

بصبر القبطان وتحملِ السفينة، استطاعوا تغيير كل مفاهيم اللغة والمنطق، وأصبح الحدُ الفاصل بين الحياة والموت لا يتضمن أي مدة زمنية ، وأصبحت الحياة الوظيفية للسفينة البقاء في وسط البحر، بلا مبرر للانتظار، وبلا قدرة على الرحيل .

هكذا كانت الأيام، وعلى ذاك النهج كان مكتوب للسفينة أن تستمر، "حتى هبت تلك الرياح"، رياح لا بد أنها موسمية في غاية الذكاء ، كانت تلك الرياح تحمل في ثناياها رائحة الياسمين، والكثير من أتربة شاطئ بدا أنهُ على مقربة من السفينة.

ولأن القبطان كان فاقداً للأمل، حاول ملياً إقناع السفينة بأن رفع الأشرعة أمام تلك الريح يعني الاتجاه نحو شاطئ لا تستطيعُ اختياره، وأن القدرة لذات النقطة قد تصبح شبه مستحيلة، إلا أن السفينة استطاعت إقناع الربان بأن الرحيل كان محتماً في وقت ما، وأن الوقتَ قد حان الآن، وأن تلك الريح هي تلك الريح التي ستنقلها إلى شاطئ الأحلام.

بدء القبطان برفع الأشرعة، ولأنه لم يكن على ثقة باتجاه الريح ودوامها، لم يرفع جميع أشرعته وبقى مصراً على أن بوصلته غير قادرة على معرفة الشاطئ المقصود وأن كثرة الريح واختلافها وتلونها لا بد أن يكون بالحسبان.

تنطلق السفينة مسرعةً وبشراعٍ واحد، كانت الريح أقوى من كل حسابات قبطاننا الأغر، وأصبح الاتجاه واحد .. وأصبح الشاطئ مقرراً بلا أي قدرة على الاختيار، قبطاننا ثمل برائحة الياسمين، وسفينتنا غير قادرة إلا على الاستمتاع بمستقبل أكثر استقراراً وحياة وردية لم تستطع حتى أن تحلم بها.

تستمر الريح بدفع السفينة، حتى أصبح الإبحار جزء من حياة القبطان وأصبح التوقف يعني النهاية التي كانت قبل أشهر جزء من حياة السفينة وقبطانها.

لم يكن القبطان قادراً على إبداء أي سطوة على سفينته وانقلبت معاني القيادة لتصبح الريح قادرة على التحكم بالسفينة وبسطوة مطلقة وبلا قدرةٍ على تنكيس الأشرعة. وللأسف لم يكن قبطاننا قادراً على استيعاب الأحداث بزخمها، ولم يكن قادراً على تنكيس أي شراع.

يستمر الإبحار، حتى يلوح في الأفق شمسٌ لم تكن كسابقاتها، ألوان أكثر إشراقاً، ومفردات تستعيد معانيها، وطيور النورس التي لاحت في الأفق كادت أن تكون السبب في رفع آخر الأشرعة والاستسلام للريح.

إلا أن الريح أصبحت أكثر غروراً وسطوة، وبدأت بفرض قوانينها للاستمرار، حيث أن المسافة التي قطعتها السفينة كفيلة بتلبية جميع الشروط والأساليب التي سترافق الوصول إلى الشاطئ.

لم تبدي السفينة أي اعتراض، لكن قبطاننا الأغر الذي لطالما استطاع الخروج من جميع أنواع السطوة والتبجح، لم يكن بعيداً جداً عن أشرعته، وكان الحد الفاصل بينه وبين الريح تحديد أسلوب الحياة على ذاك الشاطئ.

استفاق من الثمل، وصرخ بكل ما به من قوة "نكسوا الأشرعة"، لن نرحل من هنا بعد الآن.

لن نتوسل الريح، ولن نكون إلا كما أردنا، ولن نعيش إلا على شاطئ واحد، إلا على أرض واحدة.

نكسوا الأشرعة .. واعلنوا الخلود هنا … نكسوا الرايات ودعنا نموت بلا قيود .

حياتي سأحياها كم كتب لي .. والريح إن لم تكن قادرة على استيعابنا ، فهي ليست جديرة بنقلنا .. إلى ذاك الشاطئ.

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
CAPTCHA